الأربعاء، 11 يوليو 2018

قهوة الصباح1(بالقلم الشاعر كمال عبدالله )

قهوة الصّباح...(1)

الفقر... الاحباط...انعدام الثقة...اختراق القوانين...عوامل أربعة تتحكّم في مفاصل الأخلاق بين جدران "قرية المجانين"...هذا على المستوى المرئي...أمّا على المستوى السرّي فللأخلاق تعريف آخر...قد لا يعجب المشتغلين بالسياسة و السّوسيولوجيين...أشعر بأنّ قطارا قديما يتنقّل داخل رأسي...سحقت ثلاث حبات " بانادول اكسترا" فوق طاولة المطبخ...وضعت المسحوق الأبيض داخل كأس...صببت بعض الماء على المسحوق الأبيض...ثم تجرعت كل ذلك بسرعة...الجسد...لم يتعامل الأدب العربي مع الجسد إلا من خلال بعض المضامين الجنسية المباشرة أو ...وبصورة أقلّ حدّة...مع بعض مضامينه الحسيّة...وعندما نقول الجسد...فنحن نقول المرأة...وعندما نقول المرأة فنحن نتحدّث عن صنف معيّن من النساء...لنقل بأنّنا نتحدّث عن المرأة التي استطاعت أن تحوّل جسدها إلى قيمة إغرائية...هذا هو التصوّر العام للجسد بين الجدران الفكرية لــ "قرية المجانين"...أعددت قهوة سريعة..."اسبرسو" ثم عدت إلى غرفتي محاولا تجاوز الضّجيج الذي ينتشر داخل رأسي...أشعلت سيجارة من السّجائر المهربة التي أدخّن...تسلّلت بعض ضفائر الشمس داخل غرفتي...حدّثني " سي رشيد القيزاني" عن بعض الصّور التي ترواده وهو يستمع إلى أغنية " الست ميادة الحناوي"...و التي تقول بعض كلماتها ...." أنا ...أنا...بعشقك"...وحاولت جرجرته إلى الحديث إلى ما بعد الصّورة...ولكنّه كان حذرا جدا...ارتديت سروال الـ "جينز" الذي أرتدي منذ أكثر من أسبوع....ارتديت قميصا أزرقا...تختّمت بكل خواتمي ثم غادرت البيت بعد أن دلقتُ ما كنت أتجرع من القهوة...كانت بائسة جدا...انتشرت أشعة الشمس على الجدران المتآكلة لمساكن القرية...مازالت أغلب الدّكاكين مغلقة...و بالقرب من السّكة الحديد كان " حرّان" يصارع عربة الخضار التي يبدو أنّها لم تكن تستجيب لارادته...ليس هنالك تعريف متفق عليه للجسد...وإذا كانت الصّوفية لا ترى فيه سوى جسرا للحلول و الاتحاد...وإذا كان عشاق الفلسفة الوجودية لا يرون فيه سوى جسر للعبور من ضفة اللذة الممكنة إلى ضفة اللذة المتحققة فإن شعب القرية...على أغلبه...يرى في الجسد صورة التّفاحة الحرام...و للحرام لذة خاصة رائعة...اقتربت من " كتبيّة ابن زيدون" فألقيت التحية على صاحبها " فرحات" ثم اتجهت يمينا بالقرب من " فابريكة القمح" التي توقفت عن الاشتغال منذ سنوات عديدة...وقد قال لي أحد الأصدقاء بأنّ حكايات كثيرة صارت تدور حولها...دعارة....حشيش...أشباح...و المهم هو أن البوليس لا يدخلها أبدا و هو ما جعل منها مكانا آمنا لمنحرفي القرية...اتخذت لي مقعدا تحت شجرة الأكاسيا...كان "سي عزالدين.و.ح.ع" هناك...كان هنالك أيضا سي فتحي الجبهاوي...سي رضا الشيوعي...جاءني النادل بقهوتي...حركت ما كان بها من سكّر ثم التفتّ باتجاه الصّيدلية حيث كانت تقف مجموعة من الصّبايا...وكانت بينهن واحدة تتحدّث بكامل جسدها...أحيانا، أحاول تسمية أجزاء جسد المرأة و لكنّني لا أفعل...كل معجمنا اللغوي على هذا الاتجاه لا يتجاوز العشر كلمات...تهرب ثقافتنا من تسمية أجزاء جسد المرأة و تعتبر ذلك " لا أخلاقيا "...و لا أرى ما تراه هذه الثقافة التعيسة...
- هل ستمر اليوم....؟
- من...؟
- ست الستات...
- آه...تتحدّث عن الحلوة...؟
- نعم سوف تمرّ كعادتها من كل يوم باستثناء الأحد...ما الذي أعجبك فيها...؟
- كل شيء....
- هذا كلام عام...
لم يتوقّف القطار القديم عن التجوال داخل رأسي...ومازلت أفكّر بطريقة تجعلني أمرّ إلى رأس " سي رشيد القيزاني"....
- هل ترغب بتقبيلها....؟
- هل ستسمح لي بذلك...؟
- أنا...؟
- لا هي....
- لا أدري....لنفرض أنّها تسمح لك بذلك...هل ترغب بتقبيلها....؟
أشعلت سيجارة ثم عدت اتأمّل جسد الصبية التي كانت برفقة مجموعة من صديقاتها بالقرب من الصيدلية...توقّفت شاحنة الاسمنت بالقرب منّا....لقد صار صاحبها يتعمّد حجب الشارع عنا...وبالقرب من مدجنة " المزرعة" توقفت سيارة الدفع الرباعي و نزل صاحبها و قد ارتدى ثيابا تنتشر الألوان الزاهية على كل تفاصيلها...يعجبني صدر جميلة الشارع...عندما ذهبت معها الصيف الفائت إلى مركز المحافظة أي إلى "مدينة الكاف" لمن لا يعرف تونس من أصدقائي بشرق الوطن...قالت لي مبتسمة...
- هل أُعجبكَ...؟
- نعم...
- وتحديدا.....؟
- صدرك...
- هل تريد أن تراه عار...؟
- نعم...
لم يكن صدرها فقط هو الذي يثيرني...كان كل جسدها يثيرني...ألقيت بعقب السيجارة تحت شجرة الأكاسيا ثم عدت أراقب "السيد رشيد القيزاني" وهو يتأفّف و يسب صاحب شاحنة الاسمنت...هاتفتني صديقتي "المليونيرة الجميلة راقية" لتذكرني بعيد زواجها...أصبح لــ " سحنون" ماسح الأحذية حضور مميّز هذه الأيام و قد علمت من مصادر مؤكدة بأن صاحب السيارة الرباعية الدفع قد بدأ يتقرب إليه....
- وما الذي تريد أن تراه عار أيضا....؟
انتشرت جراء قطط "سحنون" ماسح الأحذية بكل مكان من تقاطع شارع " الحبيب بورقيبة" مع " نهج الهادي شاكر...وغير بعيد عن شجرة الأكاسيا أين أشرب قهوتي كان "الشيخان العاشقان" ينتظران إطلالتها....

( يتبع)....

كمال عبد الله...تونس....

ليست هناك تعليقات:

الأكثر مشاهده