راعـيـل الـعـاشـقـة ..
(قصة قصيره)
...جـ...
كثرٌ هم الاطفال الذين اعتادوا النوم بعد سماع قصة من أحد أبويهم, و أظن أغلبهم مثلي كانوا يعيشون هذه القصة في خيالاتهم نعاساً و يتفاعلون معها في أحلامهم.
لكن ليس الكثير من الآباء يتمتعون بثقافة تاريخية و عدد قليل جداً من يملك موهبة كأمي في سرد قصصٍ عميقةٍ ذات تأثير على القلب و الروح في قالب يستوعبه صغر سني.
و من تلك القصص كانت قصة راعيل بنت رماييل زوجة بوتيفار و التي كان لها الاثر الكبير على قلبي و رومانسية الحب في تكويني في صغري.
كبرتُ و كبرت تلك القصة في قلبي .. حتى أني بحثت و تصفحت كل ورقة ترويها .. حتى يومنا هذا.
بل بت أجمع ما ترسمه الحروف من لوحات و أضعها في صورة واحدة تتيح لي التعمق في مكنوناتها و تعقب كل نبضة و نفس يرتق غياب معلومة او استدرك به لوناً باهتاً.
راعيل او كما يعرفها الجميع "زليخا " المشهورة بجمالها وكبريائها الذي أضحى تكبراً وأنفة, زوجة عزيز مصر و عاشقة نبي الله يوسف عليه السلام و التي ليومنا هذا اذا ذُكر العشق تُذكر بكل تقدير لعمق و صدق عشقها .. بت اتألم لها و منها و بها.
و لكي أتيقن حقيقة فهمي لهذه القصة و احداثها قسمتها الى مجموعة مقطوعات مرحلية استخلصتها من عدة مصادر، واجتمعت عليها اكثرية المصادر التي روت هذه القصه .. مما يتيح لي دراستها و التنقيب في ذاتي عن شعوري الحقيقي بها و محاولة فهم احداثها و اسبابها.
و كان المقطع الأول :
" كلنا نعلم أنه و بعد أن قام إخوة يوسف برميه في البئر ليتخلصوا منه غيرة من تمييز والده يعقوب له ، وجده تاجر عربي اسمه مالك بن زعر، والذي بدوره قام ببيعه في سوق النخاسة لبوتيفار عزيز مصر القديمة في عهد الملك أمنحتِپ الثالث تاسع فراعنة الأسرة الثامنة عشر، ومن أعظم حكام مصر على مر التاريخ .
و بوتيفار احتضنه كابن له وقام بتربيته في قصره بين زوجته وبينه.
أحد عشر عاماً كانت كافية لأن يصبح الطفل شاباً جميلا، قوياً شجاعاً لا يخاف في الله لومة لائم، بل و متميزا بحلو اللسان، منمق و صاحب عقل ذو علم وثقافة كبيرة "
و هنا تملكتني مجموعة كبيرة من المشاعر أولها
* الخيانة و الخُذلان :.
طفل يَقتلعه اخوته من حضن أبيه ليرموا به في قاع بئر ..
ليس خنجراً واحداً في القلب بل أحد عشر خنجراً هي في الاصل لحمايته و لكن الحقد و الغيرة بدلت النصل بالمقبض.
* الخوف :.
كم هو مرعب أن أتخيل نفسي بعمر يوسف و مكانه " في قاع بئر "
حتى لو كنت ابن الاربعين و في كامل قواي البدنية و العقلية ..هل سيدركني أي أمل؟ أم ستخيم حتمية الهلاك علي و على أي انسان كان او سيكون في نفس الظروف.
* السعادة:.
حجم السعادة لا يقدر .. فاخراج مالك ليوسف من البئر هو بمثابة إعادة النظر لأعمى بل أكثر هو العودة إلى الحياة من اللاشيء .. الخروج من بقعة الهلاك السوداء الى نور الشمس و النجاة.
* الظلم :.
و كأن الظلم لم يكتفي بخيانة اخوة يوسف له .. بل اثقله بعد السعادة بتحويله من سيد نفسه ابن نبي إلى عبد يعرضه مالك في سوق النخاسه .. ما أثقلها على النفس ان تتحول من انسان الى سلعة تقدر بالمال.
الأبوة :.
بوتيفار و راعيل بعد زواج طويل بلا أطفال .. يمتلكون طفلاً مميزاً يعيش بينهم لـأحد عشر عاماً يكبر امام عينهم يوماً بيوم، يشرفان على تعليمه كل جميل فكراً و ثقافة و خلقاً.
الحنان :.
الذي شعر به يوسف في أحضان أم و أب يغدقانه بالحب بعد أن أثقله الظلم.
أما المقطع الثاني من القصة كان في قوله تعالى في القرآن الكريم
"وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ۚ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) ۞ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (30)" .. صدق الله العظيم
ويح التناقض في المشاعر الذي يعتريني، فبعد أحد عشر عاماً نشأ فيها يوسف كابن لراعيل وجد نفسه معشوقها بل إنها تغويه و تقدم جسدها له كبينة و برهان على هذا العشق.
و كيف استطاعت زليخا ان تدفع بنفسها اليه .. أحس بحرب داخلها مشتعلة بينها كأم و عاشقة ولا أعلم ان كان حبها تطور من صورته الاولى كحب امومة إلى عشق أم أنها منذ البداية لم تكن تراه الا حبيباً.
أرى اغواؤها له كان قوياً و مؤثراً فكما تسرد الآية همت به و هم بها .. فقد ضعف يوسف أمام رغبتها و لولا أن الله عز وجل صرف عنه سيطرة الشهوة لأطاعها فعلاً .. و هو صراع آخر و تناقض آخر أعيشه في هذه القصة وكأنها كُتبت لتكون كتلة من التناقضات المؤلمة و ألمها يقع في الروح و القلب.
وكم أشعر بالحزن على زوجها بوتيفار عندما رأى أن قميص يوسف قد قـُدَّ من دُبـُرٍ أيقن أن زوجته زليخا هي خائنة وهي من راودت يوسف عن نفسه .. كم من الأسى كان في قلبه حين قال كلمته الشهيرة ( إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ).
و لا أجد إلا راعيل ظالمة غرزت خنجر الخيانة المسموم في قلب بوتيفار.
و الذي بدوره شاركها بظلم يوسف حين اودعاه السجن لأنها لم تُقر بذنبها و هو يعلم علم اليقين أنها كاذبة.
و هي أصرت على معاقبة يوسف لانه رفضها ... ليعود الظلم بكل ثقله ليتربع على صدر يوسف و كاهله.
لتكون راعيل في موقع الظالم للمرة الثانية و لكن هذه المرة تظلم يوسف عليه السلام.
لا أجد في العشق تفسيراً او مبرراً أُزين فيه قُبح تصرفات زليخا,
أحقاً هي عاشقة ليوسف أم هو عشق لجمال جسده و عضلاته المفتولة؟!! .... ربما
أو ربما هو غضب البحر فتتلاطم أمواجه لا يدري من يغرق و من ينجو؟!! ... ربما
في كلتا الحالتين ظلمت نفسها كما ظلمت زوجها و معشوقها.
و أغرقتني في صراع بين الفهم بتجرد و الانحياز لضحاياها ... و أكثر من ذلك .. هل هي ضحية أم مذنبة؟!! .. أحتاج فعلاً لمن يتجرد من كل مشاعره ليجيب عن هذا السؤال من خلال قانون الصح و الخطأ .. و أنا للآن لم انجح في ذلك.
أشعر بعطش شديد .. ليس لمعرفة ما بداخلي بقدر ما اشتهي قهوة مغلية ترتفع فيها نسبة الكافيين الى ألف بالمئة..
أظنني استهلكت كل الفسفور المتوفر في تلافيف عقلي و أحرقت نبضي تفاعلاً مع مفردات هذه القصة و معطياتها.. حتى اني افكر جدياً بالهروب من شرك الغوص في عمق محيطها .. و لكن فات الاون .. فلن انجو الا إذا عدت الى السطح و سبحت إلى شاطئ تكوين الفكرة الكاملة.
سأشعل سيجاري و أنظر في القطعة الثالثة
"قضى يوسف في السجن عشر سنين, و زليخا تعاني آلام الفراق وازداد عشقها وتعلقها به ومن شدة شوقها طلبت من السجان أن يضرب يوسف لتسمع صوته.
بدوره السجان ضرب الأرض ويوسف يصرخ لتسمع صوته، لكنها قالت للسجان أريدك أن تضرب يوسف حقا فقال لها أنا أفعل ذلك، فردت عليه لو فعلت لكنت أحسست بألمه لكنك لم تفعل.
أخبر السجان يوسف بما دار بينه وبين راعيل فقال له يوسف افعل ما أُمرت به فأخذ السجان السوط وضرب يوسف ، وفي لحظة وقوع السوط على جسده أحست به زليخا قبل أن يصرخ يوسف في حينها صرخت زليخا و صرخت "ارفع سوطك عن حبيبي يوسف فلقد قطعت قلبي."
يا الله .. عشر سنين .. لم تكن كافية ليدفع عشق راعيل ليوسف بأن تعترف بذنبها و تُخرج يوسف من السجن.
بل و تعبيراً عن شوقها لصوته ترسل السجان ليجلده فتسمعه .. و حين رئف السجان بيوسف لم تقبل إلا أن يجلده بصدق لكي تحس بألمه في صدرها ..
ويحك راعيل, أهذا عشق طبيعي أم سادية امرأة عاشقة؟!!
بل تباً لعشق يؤذي معشوقاً و لا يأتي بالسعادة لعاشق.
أريد بشدة أن اتحدث إليها و اقول لها ..
كيف استطعت تقليب المشاعر من أم الى عاشقه ؟؟! و فوق هذا سجن الحبيب زوراً ومكراً ..
* راعيل قتلتِ بوتيفار الذي مرض وتأثر من خيانتك له، وندماً منه على سجن يوسف الذي احبه كولده.
* راعيل ظلمتِ يوسف بتحولك من أم الى عاشقة في الأولى
ظلمته حين كذبت و اتهمته في الثانية
ظلمته حين سجنته في الثالثة
و الرابعة حين جلده .. هل حقاً عشقته .. ؟!
أسأل نفسي هل هذا حباً خالداً في تاريخ العصور أم هو ذكرى لعشق فاق الهذيان والجنون من امرأة أحبت وأقحمت الروح لتكون سوط الظلم يجلد حبيبها قهراً لا حباً.
كم اتمنى أن أستحضر راعيل لأطرح عليها العديد من الاسئلة التي تعصف بقلبي و عقلي....و لن تحضر.
و ها هو الفجر بزغ و كل ما حققته هو حيرة مزعجة بالاضافة الى تساؤلات لا اجابات مؤكدة لها ..
حقاً منهك أنا .. و أتألم كثيراً مما عشته في هذه القصة
و لا أملك إلا أن أقول ... أن راعيل لايمكن أن تكون رمزاً لحواء العاشقة
فالعاشق الحقيقي لا يملك أن يؤذي معشوقه أبداً.
#مذكرات_لم_تكتب_بعد
جاد عبدالله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق